لا يزال البعض رافضا لهذا الدستور. هم ثابتون في الموقف. رفضوه منذ البداية وثبتوا. لهؤلاء كل الإحترام والتقدير لأنهم ثابتون على مواقفهم المبدئية.
البعض الآخر، رفضه بعد أن كان قد قبله. رفْضُه تأصّل أحيانا في عدم تضمين فصل أو فكرة أو حتى مجرّد جزء من فكرة أو موقف. وتأصّل أحيانا أخرى في موقف من باب الإملاء، لا يعرف كنهه ومغزاه. هذا البعض، من يرفض الكل من أجل الجزء أو من يرفض من دون تفكير، لا يستحق الكثير من الذكر.
والبعض، من لا يزال يتأرجح بين القابل والرافض، ينتظر ردات الفعل ليصدح برأي حتى لا يكون من الخاسرين، هذا البعض لا استحقاق له. هم في حكم المعدوم، أو المتناقل بالرياح، متناثر، لا مقر له.
كثير أيضا من قبلوه لأنهم سئموا مجلسا طال سجاله. وكثيرا من قبلوه لأنهم سئموا مرحلة عسرت ولادتها. قبله البعض عن مضض وقبله البعض الآخر من دون سبب.
كثير أيضا من قبلوه، شماتة في من رفضوه. كثير من قبلوه تحديا لمن هللوا بأنه لن يُكتب له الكتابة.
أستحضر الآن من رفضه لأنه معتقد بأنه الأولى في كتابته أو أنه القادر الوحيد على كتابته. عسى يعكف على قراءة كلمة "تواضع".
رفضوه أم قبلوه، هذا الدستور لن يفهمه سوى من عاش بحق مراحل كتابته، من عايشها، من حضرها، من تأثر لمجادلاتها، من ضحك لطرائفها، من بكي للحظاتها الحزينة، من تشنّج لتوترات نقاشاتها، ومن لم ينم الليل تفكيرا في حلّ تعقيداتها.
أنا أكثر الناقدين لهذا الدستور، أعرف أدق هناته وأدق نقاط وهنه وأدق مواطن ضعفه. قلة قليلة هم من يعرفونها.
ولكنني أشدهم دفاعا عنه. لأنه تونسي النشأة، تونسي التصوّر، تونسي الصياغة، تونسي التحرير، تونسي المولد، ...
هو دستورنا، تونسي الروح والفكر.
هو دستورنا، تونسي المنطق والتصور والتفكير: فيه الجميل والقبيح، السيئ والجميل، المبدأ ونقيضه، السهل والشائك، الواضح والغامض، البسيط والمعقّد، المقتضب والمطوّل...
هو تونسي النفسية والشخصية،
هو دستور تونسي، فيه روح تونسية، متسامحة أحيانا، عنيفة أحيان أخرى.
هو دستور حبلى بالمعاني، والأفكار...وهو بالخصوص حبلى بتاريخ...تاريخ كتابته.
لن أنسى مرحلة الصدق...في الأشهر الأولى، حين نزع الجميع من فوقه عمائم الأحزاب والانتماء. تكلموا عن جمهورية ثانية، عن مبادئ نبيلة، عن ثورة مجيدة، عن بلد ينتفض من تحت الرماد.
وأتينا، بفضل إعتماد تقنية الورقة البيضاء، بجحافل من الخبراء، والفقهاء، وممثلي المجتمع المدني،
ودرسنا وطبعنا ووزّعنا أطنان من المشاريع والدراسات والمقترحات كتبها مجموعات وأفراد، مثقفون وبسطاء.
ثم تلتها مرحلة النزاع والصراع، إثر عرض مشروع الهيئة الوقتية للقضاء ورفضه في الجلسة العامة، نسي العديد كلامهم الجميل وتقمصوا من جديد فساتينهم الحزبية...وهرعوا للكتابة...فكتبوا شيئا لا يليق.
كم كانت رائعة، مرحلة الحوار الوطني. لا أعتقد أن الشعب قرأ كتابا كنص مشروع الدستور. جاؤوا من مختلف المناطق...جاؤوا من مختلف الأعمار...جاؤوا من مختلف الشرائح...وتدافعوا ليدافعوا...عن فكرة أوعن مبدأ أوعن اختيار.
تدافعوا ليدافعوا عن وطن.
أذكر مساء عودتي من سيدي بوزيد...عدت ليلا وأنا مطمئن على وحدة الوطن. كنت في طرييق فجرا الى المدينة، مرتعشا من فكرة الجهوية والعروشية والقبلية...وحين بدأ الحوار، سمعت دروسا رائعة في باب الحب للوطن. قالوا لنا: لا تسامح مع قدسية الوطن.
أذكر مدينتي ليون وقرونوبل، في برد لاذع، جاليتنا هناك تعانق الروعة بالفكر والنقد، وبمدح الوطن. هم أكثرنا تشبثا بتوْنستنا وبالوطن. قالوا لنا: هذا المشروع ليس له روح. كانوا على حق. نُفِخت فيه الروح يوم 26 جانفي، وبقوة 200 منتخبا.
ثم دخلنا مرحلة هيئة التنسيق والصياغة. عسيرة وصعبة. كان لا بد من تصحيح الخطأ والتوق إلى الصواب. فكان خصام وتجاذب وتلاسن وتلاقح وتفاهم وتناغم ففراق فتصالح ثم كتابة وصياغة.
وفاجعة في عيد الجمهورية..
منسحبون....مرابطون...وقرار بتعليق الأشغال.
يأس العديد...واكتسح الإحباط من كان واثقا...وخلنا الحلقة أُغلقت. كدنا نعتقد بأنها لعبة وانتهت.
وعادوا....وعدنا....في مرحلة التوافق.
بالتوافق، بنود كتبوها...
بالتوافق، مضامين صاغوها...
بالتوافق، بالتلاسن، بالتنازع، بالصراع، بالبكاء، بالصياح، بالهذيان، بالمناورة، بالقوة، بالإقناع....وبالتوافق حلول وجدوها.
وبالتوافق اختلفوا...وبالتوافق تشاجروا،
وتوافقوا، في 200 من بينهم، على التصويت بنعم.
ثم تعانقوا، وتصافحوا، وجميعا أنشدوا:
نموت نموت ويحيا الوطن.
فمن لا يعتبر بتاريخ هذا الدستور، لن يفهم معانيه. ولن يقف على ما يمكن أن تمليه عليه غدا، إعتبارات الوطن.
يمين، يسار، وسط
كلّ قال نعم...من أجل الوطن.
فشكرا...
لا لهذا الدستور فقط، لأننا نتوق لما هو أفضل منه،
وإنما لوعيكم وإسهامكم في تذكير البعض بأن ما جمعنا وما يوحّدنا وما سيجمعنا وسيوحّدنا هو: الوطن.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire